إنه يعبر فاسمعيه: عنفوان التعبير وصوتُ الذّات

في عالَمٍ يزدحمُ بالأصوات المتقاطعة، وبالضجيج اللفظي الذي ينسابُ من شقوق الشاشات والطرقات ونداءات الحياة اليومية، يضيع صوتٌ جوهريّ كثيراً ما نتجاهله، أو لا نُحسن الإصغاء إليه. هذا الصوت ليس صخبَ الجموع، ولا ضجيج التكنولوجيا، بل هو ذلك البوح الكامن في نظرة، في تنهيدة، في كلماتٍ تختبئ خلف الجُمل، أو في صمتٍ يُقال فيه ما لا يقال. “إنه يعبر… فاسمعيه” ليست مجرد عبارة، بل موقفٌ إنسانيّ جليل يلامس جوهر العلاقات البشرية ويُعيد الاعتبار للفعل الأصعب: الاستماع الصادق.

اللغة كبوابة للروح: تعبير الإنسان عن وجوده

يولد الإنسان مشبعاً بالحاجة إلى التعبير. منذ اللحظة الأولى التي يبكي فيها المولود، وحتى آخر حرفٍ يلفظه شيخ على فراش الشيخوخة، يبقى التعبير امتداداً وجودياً للذات. اللغة، بكل تشكلاتها الصوتية والبصرية والرمزية، ليست مجرد وسيلة تواصل، بل هي الوسيط الذي يربط داخلنا العميق بالعالم الخارجي. عندما يقول إنسان: “أنا متعب”، “أنا حزين”، “أنا لا أُفهم”، فإنه لا يسعى إلى نقل معلومة فقط، بل إلى أن يُرى، أن يُحتضن صوته، أن يُعترف بحضوره.

أهمية الإصغاء في توازن العلاقات الإنسانية

تقوم العلاقات الإنسانية السليمة على التبادل: تبادل المشاعر، تبادل الكلمات، وتبادل الأدوار بين المتحدث والمستمع. غير أن مجتمعات اليوم، وقد أُنهكت بالسرعة والاستهلاك والتوتر، أصبحت تؤمن أكثر بالكلام من الاستماع، فصار كثيرون يُجيدون الحديث، لكن قلة نادرة فقط تُتقن الإصغاء.

إن الإصغاء ليس مجرّد صمت أثناء حديث الآخر، بل هو فعلٌ داخليّ عميق، يتطلب التركيز والنية والانفتاح على ما يقوله الآخر، وما لا يقوله. الإصغاء هو الإنصات إلى الصوت وما خلف الصوت، إلى اللغة وما خلف اللغة. وهو، قبل كل شيء، اعترافٌ صريح بإنسانية المتكلم.

حين يُقال “إنه يعبر فاسمعيه”، فإن المقصود ليس فقط إعطاء مساحة للحديث، بل تقديم الحضور الكامل، وإشعار الطرف الآخر بأنه ليس في العزلة، وأن صوته لا يضيع في الفراغ.

اللغة العاطفية والتعبير الشعوري

ليس كل تعبير يحمل نفس القيمة أو القوة التأثيرية. هناك التعبير العقلي، المتمثل في الشرح والتحليل والسرد، وهناك التعبير العاطفي الذي ينبع من القلب. حين يقول أحدهم “أنا خائف”، أو “أشعر بالخذلان”، أو “لا أحتمل هذا الألم”، فإن هذه الكلمات، رغم بساطتها، تحمل أثقالاً وجودية ونداءات خفية.

وهنا يصبح الإصغاء ضرورة أخلاقية، بل فعل إنقاذ. إن الإنسان حين يعبر عن ذاته عاطفياً، فإنه يكشف هشاشته، ويفتح أبوابه الداخلية دون أقفال. في هذه اللحظات، يكون المتحدث في أقصى حالات الصدق، والمستمع مطالب بأقصى درجات النُّبل. فكلمة واحدة في غير محلّها قد تُغلق الباب إلى الأبد، وصمتٌ متواطئ قد يُضاعف حجم الجراح.

التعبير لدى الأطفال والضعفاء: فئة تحتاج مضاعفة الإنصات

من الفئات التي تحتاج إصغاءً خاصاً، نجد الأطفال، كبار السن، والذين لا يمتلكون الأدوات الكافية للتعبير الكامل. الطفل الذي يرسم بيتاً محترقاً، أو يصرخ فجأة في موقف غير مبرر، قد يكون “يعبّر”، لكنه لا يجد من “يسمع”. وكثير من الكبار الذين يعيشون في عزلة شعورية، قد يكونون محاطين بالأشخاص، لكن غائبين عن ساحة الإصغاء الحقيقي.

الصمتُ الظاهر قد يخفي صخباً داخلياً. والمواقف الغريبة قد تكون نداءات للانتباه. حين تلاحظين تغيراً في سلوك من تحبينه، أو ارتباكاً في نبرة صوته، أو تكراراً لعبارة حزينة، فتوقفي. استمعي. لأنه “يعبر”. والتعبير دون إصغاء يصبح صرخة في الصحراء.

التعبير في العلاقات العاطفية: بوح القلب وفن الاستماع

لا تُبنى العلاقات العاطفية المستقرة على الحب فقط، بل على القدرة على التعبير والتلقي. عندما يُعبّر الشريك عن إحساسه، سواء كان ضعفاً أو خوفاً أو رغبة، فإن هذه اللحظة تمثّل اختباراً لطبيعة العلاقة. كثير من الخلافات لا تبدأ من “ما قيل”، بل من “عدم سماعه كما يجب”.

“إنه يعبر فاسمعيه” تأخذ في العلاقات العاطفية بعداً شديد الأهمية. فقد يُعبّر أحدهم عن حبه بأسلوب غير مألوف، أو عن ألمه بطريقة ملتوية، والرهان هنا هو على من يستطيع أن يرى المعنى الحقيقي وراء الأسلوب، ويمنح القبول والاحتواء.

عقبات التعبير: لماذا يخاف البعض من التعبير؟

رغم حاجة الإنسان الفطرية إلى التعبير، إلا أن هناك من يتردد، أو يختار الصمت، أو يعبر بغضبٍ أو مبالغة. والخلفية النفسية والاجتماعية لهذا السلوك معقدة، ومن أبرز أسبابها:

• الخوف من الرفض أو السخرية: كثير من الناس تربّوا في بيئات تهمش الصوت الفردي، وتقلّل من شأن الشعور، فيتعلم الطفل منذ الصغر أن “التعبير ضعف”، فيكبر على هذه القاعدة الباطلة.

• غياب النموذج الداعم: إذا لم يختبر الإنسان الإصغاء الحقيقي في طفولته، سيصعب عليه في الكبر أن يُصدّق أن هناك من قد يسمعه فعلاً.

• التجارب الصادمة: التعرض للخذلان بعد التعبير عن الذات يجعل المرء أكثر تحفظاً في الكشف عن مشاعره لاحقاً.

• الاختلافات الثقافية: بعض المجتمعات لا تُشجع على التعبير العاطفي، وتربط الرجولة أو النضج بالتماسك الظاهري والاحتفاظ بالمشاعر داخل الجوف.

جدول: مقارنة بين التعبير والإصغاء وتأثيرهما في العلاقة

عندما يتوقف الإصغاء، ينهار المعنى

إن المجتمع الذي لا يُنصت لأفراده، هو مجتمع معرّض للتمزق الداخلي. من لا يُسمع، قد يبحث عن صوت عبر العنف، أو الانسحاب، أو المرض النفسي. وحين لا نمنح الآخرين شرعية التعبير، فإننا نصادر وجودهم تدريجياً.

الإصغاء ليس ترفاً، ولا تفضلاً، بل مسؤولية. وهو ليس فعلاً نسائياً أو أبوياً فقط، بل فعل إنساني يتشارك فيه الجميع. فالذي “يعبر” ليس بالضرورة ضعيفاً، بل قد يكون الأكثر شجاعة. لأنه يُواجه هشاشته ويُقدّمها كما هي.

في الثقافة العربية: بلاغة التلقي وفن الاستماع

في التراث العربي، نجد أن الاستماع كان فضيلة تُقدّر، بل علامة على النبل والحكمة. قال علي بن أبي طالب: “تكلموا تُعرفوا، فإن المرء مخبوءٌ تحت لسانه”. لكن ما لم يُذكر كثيراً هو الوجه الآخر للعملة: من يصغي يعرف الناس ويفهم الحياة. إن الإصغاء، كما وصفه بعض المتصوفة، هو “أن تُنصت بقلبك، لا بأذنك فقط”، وهو أحد أشكال العبادات في حضرة الإنسانية.

الخاتمة: التعبير مرآةٌ للروح، والإصغاء ضوءٌ لاكتشافها

“إنه يعبر فاسمعيه” ليست دعوة عابرة، بل نداءٌ إنسانيّ أخلاقيّ يَحمل بين طيّاته أبعاداً عميقة ترتبط بجوهر الكينونة البشرية. الإنسان لا يحيا وحده، ولا يكتمل إلا بمرآة الآخر. والتعبير دون إصغاء يبقى ناقصاً، هشّاً، متألماً. أما حين يجد الصوت صدى، ويتحول التعبير إلى لقاء روحيّ بين القائل والسامع، حينها فقط تصبح الكلمات بلسماً، وتصبح العلاقات جسوراً ممتدة فوق وديان العزلة والخذلان.

المراجع:

1. Rollo May, The Courage to Create, 1975.

2. Carl Rogers, On Becoming a Person, 1961.